الحرير/
بقلم/المحامي علاء صابر الموسوي.
إن من المسلمات الاساسية في الفكر الاسلامي أن لكل من الجسم والروح والعقل والنفس كيانه ونظامه وعمله الخاص به ، وان هذه العناصر يؤثر بعضها ببعض ، ويتأثر به ، وفي موجز مقالي اعطي تعريفا مبسطا بالأمراض النفسية وعلاقتها بالأمراض الجسمية ، وخطورة تلك الأمراض ، وصعوبة علاجها ، حتى بعد نشوء نظريات التحليل النفسي ومحاولات اكتشاف منشأ المرض والعقد النفسية ، والحالات المرضية التي يعاني منها مرضى النفس ، وبيان قيمة الايمان بالله سبحانه وأثره في تحصين النفس البشرية من تلك العقد والأمراض ، وقدرته على معالجتها وإصلاحها ، فالنفس البشرية كما تفيد دراسات العلماء الإسلاميين هي كيان مجرد من الخصائص المادية ، وجهاز قائم بذاته ، وهذا الجهاز هو كالجسم يصح ويمرض ويُعالج .
وفي حديثنا عن ( الأوضاع النفسية ) وما يصيب كلا من الجسم والنفس من أمراض وخلل في نظام عمليهما ؟!
نقول بأن الإنسان ينقسم إلى سر وعلن ، وروح وبدن ، ولكل منهما منافيات وملائمات ، وآلام ولذات ، ومهلكات ومنجيات ، ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية ، وملائماته هي الصحة واللذات الجسمانية والمتكفل لبيان تفاصيلها ومعالجاتها هو علم الطب ، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه ، وصحة رجوعه إلى فضائلها التي تسعده وتنجيه ، وتوصله إلى مجاورة أهل الله ومقربيه ، والمتكفل لبيان هذه الرذائل ومعالجاتها هو علم الاخلاق ، ثم إن البدن مادي فإن ، والروح مُجرد باق ، ولاريب في تجريد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن ...ماعرفت من تجرد النفس إنما هو التجرد في الذات ، دون الفعل لافتقارها فعلا إلى الجسم والآلة ، فحدها : إنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن حاجاته ، وهو حقيقة الإنسان وذاته ، والاعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها ، وله أسماء مختلفة بحسب اختلافات الاعتبارات ، فيسمى ( روحا) لتوقف حياة البدن عليه ، و ،( عقلا) لادراكه المعقولات و ( قلبا ) لتقلبه في الخواطر .
لذلك يشخص تحليلنا الفكري عدة حقائق متعلقة بالنفس البشرية ، وهي :
- إن النفس كيان مجرد عن الخصائص المادية ، كما أن الطاقة في مفهوم علم الفيزياء تختلف عن المادة .
- إن النفس هي حقيقة الإنسان وذاته ، وهي التي تسمى ( الأنا) فإذا قال الإنسان ( أنا) أنما يقصد ( النفس) هذا الكيان المجرد الذي يشعر باللذة والألم ويدرك ويفكر ويكره ويحب ويخاف ويقلق ويغضب ويرضى ويريد ويرفض ...الخ .
إن الجسم آلة لتنفيذ مآرب النفس ، فما تريده النفس وترغب به يتحرك لتحقيقه عن طريق تحويل الصورة الفكرية الى موقف إرادي وسلوك عملي ، لذا فإن النفس تؤثر بالبدن ، كما يؤثر البدن في النفس ، ومن هذه الآلية يتحول كثير من المشاعر والتصورات إلى حالات مرضية كالقلق والخوف والحب والكراهية .....الخ ، فتؤثر تأثيرا انفعاليا فيستجيب الجسم لتلك الانفعالات استجابات فسيولوجية ، وتترك آثارها المرضية احيانا على الجسم .
- إن النفس تمرض كما يمرض الجسد ، ومرض النفس هو انحرافها عن خط الاستقامة الذي يسميه الفلاسفة الاخلاقيون بحد الوسط أو الاعتدال ، فتصاب بالقلق والخوف والحقد والشعور بالنقص ...الخ ، وان هذه الأمراض تثير انفعالا يتحول الى أمراض جسمية ، فقد أثبتت الاحصائيات العلمية أن نسبة عالية من الأمراض الجسمية سببها الأمراض والانفعالات النفسية ، كأمراض الجهاز الهضمي ، مثل القرح وسوء الهضم وتهيج الأمعاء ، وكالامراض العصبية ، واختلال نسبة السكر ، وأمراض الحساسية والصداع ...الخ .
فكثير من الأمراض تبدأ نفسية ثم تتحول الى أمراض جسدية ، وتؤكد الإحصاءات والدراسات النفسية أن معظم الأمراض الجسمية سببها الأمراض النفسية ، وان العلاقة متبادلة في كثير من الأحيان بين الجسم والنفس من الصحة والمرض .
والنتيجة التي توصلت إليها تتفق كل الاتفاق مع النظرية الطبية الحديثة عن أهمية العنصر السيكولوجي في العلاج الحديث ، فتبين أكثر الأمراض المنتشرة إلى حد كبير ترجع لمسببات نفسية ..فما هي الأسباب الرئيسية لما تسببه الأمراض العصبية ؟ أن من الأسباب الرئيسية لهذه الأمراض الشعور بالأثم والخطيئة والحقد والخوف والقلق والكبت والتردد والشك والغيرة والأثرة والسأم ، ومما يؤسف له أن كثيرا ممن يشتغلون بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصي اسباب الاضطراب النفسي الذي يسبب المرض ولكنهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات ، لأنهم لايلجأون في علاجها في بث روح الايمان بالله في نفوس المرضى ، ويجب فوق ذلك أن نتسائل عن هذه الاضطرابات الانفعالية والعوامل التي تسبب تلك الأمراض ، أنها هي ذاتها الاضطرابات التي جاءت الأديان لكي تعمل على تحريرنا منها ....
وتتفق الدراسات النفسية الحديثة هذه مع دراسة علماء الاخلاق الإسلاميين في إن النفس البشرية تصاب بالأمراض ، وأنها تواجه حالة الصحة والمرض ، كما يواجهها الجسم ، ولذلك من الناحية العملية يمكن اعتبار الحياة سلسلة من الصراعات ينجح الفرد في التغلب عليها فتتكون ( الصحة النفسية) ، أو يفشل فيكون ( المرض النفسي) ، ويمكن القول بأن المرض النفسي ؟ في جوهره هو إخفاق في استيعاب وتوافر وتمثل خصائص السلوك الصحي النفسي ، وننتهي من القول ( فهناك منطقتان اساسيتان هما : (( منطقة الصحة النفسية )) وتشمل أحوال الخلو من المرض النفسي وهي أدنى حالات هذه المنطقة ، تعلوها حالة (( السلامة النفسية)) وتأتي في القمة (( حالة الصحة النفسية)) وفي المقابل هناك (( منطقة المرض النفسي)) وتشمل حالة الاضطرابات الانفعالية والتي تعتبر ابسط أحوال المرض النفسي (( حالة الأمراض النفسجسمية )) ثم (( الأمراض العصابية)) واخيرا (( الذهان )) الذي يمثل أشد حالات التدهور العقلي .
وهكذا تتكون أمامنا صورتان متقابلاتان ، وهما صورة الصحة النفسية وصورة المرض النفسي ، تتنازعان على النفس البشرية ، ولاسعادة للإنسان إلا بتوفر الصحة النفسية وخلو النفس من الأمراض والانفعالات المرضية ، وكما أوضح علماء الإسلام فإن ما أسموه بالفضائل ( حالات الصحة النفسية) والخلو مما أسموه بالرذائل الأخلاقية ( حالات المرض النفسي) هي من المباديء الأساسية في بناء الشخصية الإسلامية ، لذلك نجد رسول الله الكريم محمد صل الله عليه وآله وسلم ينادي ( إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) .
وفي قول آخر يحلل لنا تحليلا علميا انعكاس سوء الخلق المرضي على النفس فيقول:
( من ساء خُلقُهُ عذٓب نفسه ) .