الحرير/
بقلم/حسين الذكر
منذ بواكير حياتي قرات كتابين اجد لهما الفضل بعد الله في الكثير مما اعيه . الأول قصة الفلسفة والثاني قصة الحضارة لكاتبهما الأمريكي وول ديوارنت .. الكتابان لا غنى عنهما ولا بديل لتحري فهم الواقع وإمكانية السير بشكل أوضح بحثا عن الحقيقة او السير في طريقها .
كنت اعيد قرائتهما كل عقد من عمري لحاجة وتوق تيقنت ان كل من يلجا لعالم الوعي سلما بعيدا عن زخرف الحياة وشهواتها المشوهة لا بد ان يستند الى منظومة أخلاقية ثابتة .. هذا ما شدني الى بتراند راسل الفيلسوف البريطاني( 1872 – 1970 ) الذي عاش مائة عام وشهد الحربين وتفجر العقل الصناعي والجشع الاستعماري الحديث .
امتاز بتواضعه وصراحته وجراته على العادات والتقاليد وقد القى بأخر مشاويره الاكاديمية سلسة محاضرات في أمريكا دعا بتواضع طلبته لاحتساء الشاي معا وتبادل الراي بعيدا عن الكلفة وكتب من هارفرد ان طلبته الامريكان ليس بينهم ما يثير الاهتمام وينبيء بالعبقرية .
عارض الحرب الأولى 1914-1918 وسجن ستة اشهر ثم اطلق سراحه فكتب : (ما جدوى حبس الجسد ما دام العقل طليقا .. لقد نسيت السجن الذي يحبس فيه العالم نفسه .. اني حر وسيكون العالم حرا ) .
زار الصين بعد الحرب الأولى وكتب : ( ان الصين سيكون لها شان كبير وان جميع الدول الكبرى دون استثناء لها مصالح تتعارض مع مصالح الصين في المدى الطويل ) . وقد انتقد بعض الصينيين الذين رءاهم حريصين على ملأ بيوتهم بالاثاث الغربي الرديء ومحاكاة الأفكار الغربية . وقد ابتهج بشرائه بعض الأثاث الصيني القديم .. لكن المترجم الصيني قال له : ( ان هذا الأثاث له رائحة بوذية ) .
اثار موجة من الجدل العنيف حينما قال : ( ان الصين تحتاج الى التصنيع والفلسفة العملية لحل مشاكلها مع البؤس والفقر اكثر مما هم عليه من النقاش والجدل ) .
مرض هناك وكاد يموت .. وقد اعلن عن وفاته فعلا ونعاه الكثيرون .. لكن أخيه قال : ( انها مجرد اشاعات ) .. بعد ان تمكن فريق طبي انقاذ حياته تيسر له الاطلاع على عدد من الإعلانات التي كانت تنعيه مسبقا .
افتتح رسل وزوجته دورا مدرسة لتعليم الأطفال سماها ( بيكون هيل الاهلية ) في بريطانيا فكرتها قائمة على تهئية أجواء الحرية للنشيء ، اذ كتب : (سنسمح لهم التصرف بوقاحة واستخدام أي الفاظ يريدون .. والا فان الكبت سيسبب ضررا ينعكس عليهم ويسمم حياتهم من الداخل ) .
تعرضت المدرسة لخسائر جسيمة بلغت 1000 جنيه سنويا .. لكن الأهداف المتوخاة كانت اعلى .. فكتب : ( ساكتب المقالات السريعة التافهة لاني انظر الى هذه الكتابات من علياء المشاعر السامقة ) .
في واحدة من اشهر ارائه قال : ( ان حياة معظم طلبة الجامعات ستكون افضل من الناحية الأخلاقية والفكرية لو عقدوا زيجات مؤقتة دون انجاب أطفال ) .
عانى ضائقة مالية في نيويورك كما ثارت عليه فتنة من الكاثوليك هناك. فقد احتج احد الأساقفة معترضا على انه اشتهر بدعايته ضد الدين والأخلاق . ثم رفعت احدى الامريكيات شكوى ضد تعينه قائلة : ( ان ارائه تشتهر بالفسق والشهوانية وتمتلأ بالمهيجات الجنسية وتنم عن الالحاد وانتفاء أي نسيج أخلاقي فضلا عن كونه مواطنا ليس أمريكا) .
بلغ راسل ذروة العقل والحكمة عام 1948 حينما الف كتابه الجديد ( المعرفة الإنسانية ، مجالها وحدودها ) .. لكنه لم يشتهر بسبب كتابته المقدمة : ( ان الكتاب لم يوجه أساسا للفلاسفة المحترفين . لكنه موجه الى القاريء العادي ) .
في واحدة من روائعه الطريفة التي تحدث بها بلغة الطيور او على لسانها قال : ( ان الأسود والفهود حيوانات اليفة ولطيفة جدا .. فيما الدجاج والبط تعد من اخطر الحيوانات على وجه الخليقة .. تلك نصيحة ووصية دودة الاض كانت قد تركتها على فراش الموت لاولادها محذرة قبل الرحيل الابدي .
بعد عقود خلص راسل الى نتيجة مفادها : ( ان كل معرفة إنسانية هي مسالة غير مؤكدة ومتحيزة ولست اجد لهذا المبدا اية حدود ) .. وهنا بلغ قمة التواضع والاعتراف بالحق المطلق حسب ما يذكر منتقدوه وموافقوه .