recent
أخبار ساخنة

عراقية في الغربة

الحرير /
الكاتبة وداد ابراهيم 
ما كان اليوم الدراسي الاول، حالة من الفرح، بل سعادة لا أعرف لها وصفاً عبر الكلمات وأنا أرافق ابنتي إلى المدرسة الابتدائية، أو كما يطلق عليها (التمهيدي)، يوم انتظرته بفارغ الصبر  ولخمس سنوات قضيتها في الغربة. 
 علق على الشارع المؤدي إلى المدرسة دليل أن حركة سير العجلات لا تزيد عن عشرين كيلومترا" في الساعة كون المجمع فيه مدارس، المشهد ينبئ بأن المدرسة تخضع لترتيب وتنظيم من مديرة تلبس حذاءها الرياضي، وتقف على باب المدرسة تستقبل الأطفال. لم يكن هذا غريبًا عليّ، ففي وطني مدارس كانت تضاهي أهم المدارس في العالم مديرة تقف على باب المدرسة في اليوم الأول للدراسة الابتدائية وهي بكامل أناقتها تستقبل التلاميذ بوجه شديد الجدية يوحي بأن العلم مطلوب حتى اللحد، كأنها تقول لنا: "من جدّ وجد"، نعم كنت أنعم بتعليم رصين ومن معلمات غاية في الأناقة والجدية والقوة واللطف والشراسة في إدخال المعلومات إلى أذهان التلاميذ هكذا مرت الايام  في روتين قاتل. .
 انتهى النهار مسرعًا وتهيأت للذهاب ثانية إلى المدرسة، بهرني التنظيم والترتيب الذي يخرج به التلاميذ من المدرسة دون أن أشهد جريًا أو صراخًا أو عراكًا بينهم. تذكرت أننا كنا نخرج من المدرسة فنطلق العنان لأصواتنا بالصراخ والمرح والجري، بل والوقوف على باب المدرسة والتهام حبات من حلويات (لقمة القاضي) أو شراء (السمسمية) أو (السميط) أو بعض المخبوزات، والتوقف أمام بائع المثلجات والبحث عن آخر ما تبقى من المصروف لشراء قطعة من البسكوت المخروطية الشكل لالتهامها بسرعة وكأننا خرجنا من السجن .
 أعتقد بأننا كنا نعيش في حالة أكثر صحية مما أشاهده الآن لأننا لا نكتم أنفاسنا، بل نصرخ بأعلاها إلى البيوت. مر أمامي شريط الذكريات وأنا أحمل العلامة الفسفورية التي تحمل اسم ابنتي لتأتي بها المعلمة إلى العجلة وتدخلها وتغلق الباب، ومن دون أي حديث. انطلقت إلى شوارع هادئة واسعة كبيرة نظيفة، فانهمرت دمعات من عيوني على شوارع وطني التي لم ينصلح حالها حتى الان. 
أحببت أن أكلم ابنتي عما حصلت عليه من تعليم، فوجدتها تقرأ لي نشيدًا باللغة الاجنبية أو لغة البلد وعرفت انه النشيد الوطني، إذن من يعلمها النشيد الوطني لبلادي؟ وكيف ستتعلم حب الوطن؟ هل أستطيع أن أفعل ذلك كله وبنفسي مثلما اتخذت على عاتقي تعليمها اللغة العربية في البيت؟ لكن المعروف أن ما يأخذه الطفل في المدرسة الابتدائية أساس حياته وبناء شخصيته ووجوده في الحياة. 
 كيف ستتلقى دروس الجغرافية؟ وبلادي عرفت باسم أرض السواد، أي الأرض الخصبة المعطاء، ووطني يسعى ليكون على لائحة التراث العالمي ثانية بعد الاهوار؟ من سيعلمها التاريخ؟ تاريخي مجيد وعظيم لا يشق له غبار، حكايات الحضارات وأسماء الابطال والملكات وحكايات عن نساء كنّ يمثلن العشق والخصب والحياة، وقصص المدن التي عرفت معنى الكتابة أور وآشور وبابل، سجلت على الكهوف والجدران حكايات رسمت بأنواع الخطوط تشريعاتها وقوانينها. حمورابي قد لا تعرفك الأجيال اللاحقة من المهاجرين واللاجئين في دول الغرب وأمريكا.
 لم أكن يومًا قد فهمت السياسة ولم أعرف اسماء الأحزاب والتكتلات في وطني، وحتى الآن لا أعرف معنى المحاصصة لأني لا أقترب من السياسة والدين، لكن ما هذا الذي يعبّأ في داخلي من حب الوطن، والأرض، واللغة والدين؟ كنت أقود العجلة في شوارع نظيفة واسعة تتزين بالإشارات والعلامات وأسماء الشوارع وأسماء الأماكن وأسهم الاستدلال، الكل يخضع للنظام الكل يقود العجلات بسرعة لا تتجاوز المقرر لها وفقا" النظام، لا ضجيج. لا مخالفات. لا أصوات لأبواق السيارات، لكن هذا الصمت هو من يقلب كياني ويحيل الهدوء في نفسي إلى ضجيج كيف لي أن أعيش بعيدًا عن حكايات وضجيج بلدي؟ كيف لي أن أقاوم حب بلدي؟ لماذا تنهمر دموعي كل يوم بلا سبب او استفزاز؟ البكاء على الوطن لا يحتاج إلى استفزاز، لا إلى وجع، إنه بكاء من نوع خاص، بكاء الحنين الذي يداهمني كل يوم.
 توقفت مع نساء من وطني في صف انتظار عودة ابنتي من المدرسة وعرفت أن كل المهاجرين من أوطانهم يفترشون كل يون حنين الوطن وينامون على عقار خاص اسمه عقار الكآبة، أعدته هذه الدول للمهاجرين والهاربين من أوطانهم بحثًا عن وطن بلا فراش او حنين، بحثًا عن وطن يضعون فيه حقائب سفرهم ويجعلون منها وسائد لهم؛ لكي تبقى أحلامهم ملونة بلون الوطن، وتبقى أعلى نجاحاتهم الصبر والسلوان على فراق أماكن لم تعد موجودة على خارطة عشقهم، وتبقى رائحة الوطن وحكاياته أجمل ما يضعونه من عطور وهم يغتسلون من مشقة السفر. 
 كل ما حولي يغيب، خارطة وطني، جغرافيته، عاداته، أحلامه، أماكنه العتيقة، تراثه إلا أحلامي تبقى ترسم لي يوميًا خارطة حبي، تنسجها تلافيف عقلي كل يوم لأبقى أعيش فيه روحًا تغادر جسدها كل يوم وتحلق على جسر الجمهورية وتلوح للنوارس بأن هناك المزيد من الخبز والعنبر والسمان في ربوع بلادي الغائبة.
عادت ابنتي من المدرسة باكية حزينة لأن زميلاتها الفتيات  يعيرنها بأنها لا تقترب من اصدقائها الشبان وبأنها دخلت عمر المراهقة من دون أن يلثم شفتيها أي شاب، ومن دون أن تودع جسدها في سرير أي شاب، الكل يصفها بالفتاة المعقدة العربية المتخلفة..
 كانت الكيانات في داخلي على وشك الانقلاب، بل كان كل شيء على أهبة الاستعداد لكسر قارورة الصبر التي امتلأت وفاضت بالصور والتفاصيل والمعاني والمحسوسات التي لا تدرك بحس معين المشاهد التي تطلب الابتعاد والباعث لها قوة غضبية وقوة إرادية، وجدت عقلي يعيد ويتذكر ويشهد لي بالكثير، وليشرق عقلي بالمزيد من التبريرات ويفتح أمامي جروحًا لم تندمل بعد لأنتقل إلى مرتبة أعلى في عقلي وهي الفعل المنطق- القرار- الإصرار- الشروع -النهوض- الثورة على كيانات صنعتها حكايات عن أوربا وجمال الغرب والهروب من الوطن، لأتحول إلى وحش عرف الآن من كان يوقظه حالمًا يمسك بحلمه، ومن كان يوهمه بأنه ليس إلا صناعة قد تتعطل لاحقًا، تحولت إلى امرأة تريد أن تقاتل من أجل حبها وبيتها وأولادها، تحولت إلى إنسان اغتسل للتوّ من براثن الاغتراب والعزلة والتوحد والنوم في كهف مظلم بانتظار يوم أكثر ظلامًا وحلكة.. 
 حزمت حقائبي واتصلت بزوجي وقلت له: لنغادر الأماكن المنزوعة من الحب والعطف والإنسانية والامتثال لما يريده وطنك وضميرك، ونعود إلى أماكن وأزمنة رافقتنا منذ أن قررنا الاغتراب والهجرة .
google-playkhamsatmostaqltradent