recent
أخبار ساخنة

رحلة تاريخية مع الملكية و ثورة 14 تموز و 8 شباط الأسود

الحرير/
بقلم : الكاتب فراس الغضبان الحمداني 
بعد مضي أكثر من نصف قرن على قيام مجموعة من الضباط العراقيين بحركة عسكرية لإسقاط النظام الملكي في العراق وإعلان النظام الجمهوري ، مازال الخلاف قائما على تسمية هذه الحركة بالثورة أو الإنقلاب ، بل إمتد هذا الإختلاف على تفاصيل مجريات هذه الحركة ورموزها ومسارها الذي يراه البعض قد إنحرف ويراه طرف آخر أن الآخرين هم الذين إنحرفوا وغدروا بالثورة والثائرين ، خلال هذه السنوات صدرت الكثير من الكتب والدراسات والبحوث ونشرت وثائق كان القاسم المشترك بأن ما جرى عام 1958 هو حدثاً سياسياً نوعياً في العراق ، وإن زعيم الثورة عبدالكريم قاسم أصبح رمزاً شعبياً رومانسياً للفقراء والحالمين بالتغيير ، لكن الثورة وزعيمها ورغم عمرها القصير قد حققت إنجازات كبرى ، لكن هناك من يؤشر أخطاء إستراتيجية نتجت عن حدث التغيير نفسه ، فمجرد قيام الضباط من الجيش العراقي بإستخدام السلاح بقوة الجيش بإحداث التغيير ، فإن ذلك يؤكد سابقة ألغت التوجه الديمقراطي للنظام الملكي العراقي وفسحت الطريق أمام المغامرين من العسكر بإستخدام القوة لإستلام السلطة وعدم الإعتراف بالتداول السلمي لها ، وهذا ما يفسر سلسلة الإنقلابات العسكرية أو المحاولات التي شهدتها البلاد وكان آخرها الإنقلاب الدراماتيكي للبعثيين وما تلاه من إنقلابات داخلية نفذها صدام حسين ، هذا هو المأخذ الأول على الزعيم أما المأخذ الثاني وتشترك معه الأحزاب فإنه قرب اليمين فإبتلع اليسار ثم قرب اليسار فنكلوا باليمين ، ولكنه نجح بالإنتماء إلى الشعب حين رفع شعار اغضب كل الأحزاب وتآمروا عليه ، فكان هذا الشعار ( الشعب فوق الميول والإتجاهات ) ، والمأخذ الخطير على رجال الثورة أو المهاجمين على قصر الرحاب هو قتل العائلة المالكة التي تشكل هذه الحادثة خطا كبيراً ولغطاً محيراً لماذا تم تصفيتهم بدلا من ترحيلهم إلى خارج العراق لتكون ثورة بيضاء بلا دماء ، المأخذ الآخر لزعيم الثورة هو عاطفيته وانحيازه الكبير إلى الفقراء ورعايتهم وتطوير مناطقهم في الجنوب ، خاصة وإنه قد ألغى قانون الإقطاع ، لكنه فتح أبواب بغداد لمئات الآلاف من المهاجرين وأسكنهم في كانتونات بعد أن تركوا مزارعهم وبساتينهم وإنخرطوا بكامل عوائلهم ، لكن الذي حدث وحصدنا ثماره الآن إن خمسة ملايين مؤريف مزدوج الولاءات لم يهضموا التمدن ولم يهضمهم التحضر ، قيل الكثير وسيقال الأكثر عن عبدالكريم قاسم وثورته لكن الذي لا نقاش فيه إن الزعيم ويعترف بذلك حتى أعدائه إنه كان نزيهاً محباً للعراق لم يخلف ورائه أطيان وعقارات ومليارات ، بل ترك خلفه ذكرى عطرة وشخصية شجاعة ونبيلة أرادت أن تخدم العراق لكن الأحزاب غدروا بالثورة وإنقلبوا على زعيمها وحطموا كل أحلام الشعب الذي لم يصدق برحيل زعيمه ، وكان الشعب يتخيل صورته على وجه القمر ويلمس إنجازاته في قناة الجيش وفي عدد كبير من الأحياء السكنية في عموم مدن العراق ، ويراه أيضاً في القوانين والتشريعات التي إنتزعت الأرض من الإقطاعيين ومنحتها للفلاحين ، وأعاد الثروة النفطية للبلاد بعد إن أصدر القانون رقم 80 ، ويكفي الزعيم الأمين هذه الإنجازات وشجاعته النادرة وهو يواجه برجولة وبسالة الإنقلابيين ويجعل أيدي فرقة الإعدام ترتجف من هيبته فأين لنا بهكذا رجال مازال الشعب يرى فيهم الأسطورة والأمنيات .

اليوم في هذه الرحلة نستعرض أغلب الأحداث التي مرت على الثورة وزعيمها وكذلك نأخذ رأي الذين كانوا قريبا من مجريات الأمور في ذلك الوقت سواء كانوا بالضد منها أو مشاركين فيها أو ما طرحه ونشره بعض المختصين بتاريخ العراق ، وسوف تكون رحلتنا منذ ولادة الزعيم لغاية إستشهاده في أستوديو الأغاني في مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية .

الزعيم عبدالكريم قاسم في سطور

ولد عبدالكريم قاسم في محلة المهدية جانب الرصافة من بغداد في 1914/ 11/ 21 في حي من إحياء العاصمة القديمة ، من عائلة فقيرة ينحدر من أبوين عربيين ، فأبوه قاسم بن محمد بن بكر من قبيلة زبيد القحطانية ، وأمه السيدة كيفية بنت حسن اليعقوبي من قبيلة بني تميم العدنانية وإبن عمته العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية الذي لقى مصرعة في الموصل مع بكر صدقي عام 1937 ، وهو أصغر إخوته حامد وعبداللطيف وله شقيقتان ، وفي السابعة من عمره انتقلت عائلته إلى بلدة الصويرة التابعة للواء الكوت ، حيث لم يستطع والده الاستمرار في مزاولة النجارة والتكفل بأعباء الأسرة ، فساءت أحوالهم المادية فحاول الإستعانة بأخيه علي بن محمد بن بكر الزبيدي الذي كان ضابطا في الجيش العثماني ، وكان يملك مزرعة يعيش منها ، فأخذ والده يزاول الزراعة ، دخل عبدالكريم قاسم المدرسة الإبتدائية سنة 1924 حيث درس لفترة أربعة سنوات إنتقل بعدها إلى بغداد وواصل تعليمه مكملاً فيها دراسته الابتدائية سنة 1927 ، ثم دخل الثانوية المركزية وحصل على شهادة الدراسة الإعدادية في الفرع الأدبي ، عمل في التعليم الإبتدائي لمدة عام 1931/ 1932 ، ترك التعليم ليتوجه إلى الإلتحاق بالكلية العسكرية عام 1932 ويتخرج برتبة ملازم ثان في 1934 / 4 / 15 ، وفي عام 1940 دخل كلية الأركان وتخرج منها بإمتياز وشارك في العديد من الدورات العسكرية ومنها دورة الضباط الأقدمين في إنجلترا ، حصل على رتبة زعيم ركن في 2 / 5 / 1955 ، قاد ثورة 14 تموز 1958 مع مجموعة من زملائه من تنظيم الضباط الأحرار وأصبح وزيرا للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ورئيسا للوزراء ، ترقى إلى رتبة لواء عام 1959 ومن ثم رتبة فريق ركن قبل مقتله أثر إنقلاب عسكري في 8 /2 / 1963، عرف بتواضعه وأمانته ووطنيته وتكتمه وإنضباطه العسكري العالي ، شارك في حرب فلسطين وخاض فيها معارك ضارية عرفت بشجاعته إنتصر فيها على الصهاينة في كفر قاسم وجنين ، قاد ثورة 14 تموز وقضى على النظام الملكي وحرر العراق من الأحلاف الإستعمارية ودعي إلى تحرير وإسترجاع الثروة النفطية وإعادة ضم الكويت إلى العراق كونها محافظة عراقية إستقطعها الأنكليز لأغراض سياسية وإقتصادية ، كما دعم حركات التحرر الوطني والعالمي ، ونفذ سياسة وطنية لبناء العراق بتوسيع التعليم وتوفيره لكل المواطنين ونفذ بناء المستشفيات المجانية ، وأعاد بناء الجيش العراقي وتسليحه وأدخل ودعم الصناعة المحلية ووزع الأراضي على الفلاحين والقيام بالإصلاح الزراعي وأمر بفتح قناة الجيش وبنى البيوت للعوائل الفقيرة وسن قانون المرأة ، وكان من دعاة سياسة الحياد الإيجابي بين الكتلة الشرقية والغربية .

كيف فجرت ثورة 14 تموز 1958

عند تشكيل نخبة من الضباط المستنيرين لتنظيم الضباط الوطنيين ( الذي أسماه الإعلاميون لاحقًا بتنظيم “الضباط الأحرار” أسوةً بتنظيم الضباط الأحرار في مصر ) ، أنضم لهذا التنظيم الزعيم عبدالكريم قاسم وبعدها أصبح من الضباط الفعالين في هذه الحركة ، حيث بادر الزعيم بتقديم أسم عبدالسلام عارف من خلال إحدى الإجتماعات للإنضمام إليها ولكن الأعضاء في التنظيم رفضوا إنتماء عارف كون عليه مؤشرات كثيرة أولها طائفيته المقيتة والإندفاع المتهور وإفشاء الأسرار ولكن لإلحاح عبدالكريم قاسم لأكثر من مرة وافق التنظيم بشرط وضع عبدالسلام مدة ستة أشهر تحت المراقبة ، وبسبب تأجيل تنظيم الضباط الوطنيين بالقيام بالحركة لأكثر من مرة إتفق عبدالكريم قاسم مع عبدالسلام وبالتنسيق مع بعض الضباط من أعضاء التنظيم وهم الفريق نجيب الربيعي والعميد ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري والعميد عبدالرحمن عارف والعقيد عبدالوهاب الشواف على الشروع بالتحرك للإطاحة بالحكم الملكي دون الرجوع للتنظيم ، مستغلين فرصة قيام الإتحاد الهاشمي وتحرك القطعات العراقية لإسناد الأردن ضد تهديدات إسرائيلية لقيام الإتحاد نجح التنظيم في الإستيلاء على السلطة ، وتولى العميد عبد الكريم قاسم منصب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة بينما إستلم الفريق نجيب الربيعي منصب رئيس مجلس السيادة ريثما يتم إنتخاب رئيس للجمهورية أما العقيد الركن عبدالسلام عارف فتولى منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزعت باقي الوزارات على أعضاء التنظيم حسب إسهامهم بالثورة .

العشاء الاخير في حياة العائلة المالكة

في يوم الأحد المصادف الثالث عشر من تموز 1958 كان الملك فيصل الثاني متواجداً في القصر الملكي مجتمعاً مع عائلته وبعض الزوار وقد أحيّوا حفلاً عائلياً صغيراً بمناسبة عيد ميلاد الملك ، تخللته فقرات ترفيهية من أحد السحرة البهلوانيين الذي إستقدمه الأمير عبد الاله وكان مدعوا للحفل عدد من المقربين بضمنهم قائد الفرقة الثالثة الفريق غازي الداغستاني والتي إنطلقت منها الحركة دون علمه وبعد الحفل كان الملك يتداول موضوع زواجه المرتقب وهّم بعض أفراد الأسرة بوضع الترتيبات الخاصة بسفر الملك إلى تركيا ثم إلى بريطانيا ، حيث من المقرر إن يلتقي خطيبته وفي لندن . كان الملك الشاب الذي يبلغ من العمر 23 سنة ً يعاني من الربو ، هادئ في طبعه مثقف خجول إلى حد ما وكانت له نزعة وطنية مبنية على حبه للعراق ، كان يقتدي بسيرة والده الملك غازي المعروف بمناصبته العداء لبريطانيا والذي قتل هو الآخر في حادث إصطدام سيارة غامض عام 1939 وكان يؤثر عليه وعلى قراراته بشكل خطير خاله الوصي السابق على العرش وكان من المقرر أن يلتقي الملك فيصل الثاني بخطيبته الأميرة فاضلة في لندن حيث تقرر زواجهما خلال شهرين ، وكان مقررا أن يرافقه في سفره رئيس وزرائه نوري السعيد وبعض الوزراء بضمنهم غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة الذي قام أحد الألوية التابعة له بالقيام بالحركة ومن العائلة كان سيرافقه بعض أميرات الأسرة وأزواجهن كان الملك طوال الأمسية منتشياً بسبب التطورات الجميلة على المستوى العائلي بالزواج وعن القصر الذي يشرف على تشييده في كرادة مريم ، والذي صادرته الدولة بعد إعلان الجمهورية ، حيث تم توسيعه وإكماله وإفتتاحه عام 1965 ليكون القصر الجمهوري كمقر رسمي ومكتب رئيس الجمهورية ، والذي تم السيطرة عليه من قبل القوات الأميركية عام 2003 والتي حولته إلى السفارة الأميركية .

كان الملك قد خطط الإنتقال للقصر الجديد ليكون مقره وسكنه بعد زواجه وهي خطوة منه لفصل نفسه وقراراته وسياسته عن الوصي السابق عبد الإله ، ليبدأ بسياسة جديدة نابعة من فهمه ومبادئه ومن المفارقات كانت خالة الأميرة هيام تبدي ملاحظاتها المتكررة للملك بأن يذكر عبارة ” إن شاء الله “، حيث علق مازحا “نعم إن شاء الله ، ولكن لماذا هذا الإلحاح وكأننا سنموت غدا ؟ ”

وقبل ظهر ذلك اليوم إستقبل الملك بعض زائريه في مكتبه وتناول طعام الغداء مع أغلب أفراد أسرته ، ودخل جناحه الخاص للإشراف على إعداد حقائب السفر ورغم الأجواء المرحة للمناسبة السعيدة والذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئاً من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات وبخاصة الأميرتان عابدية وبديعة وقبل الغروب بحوالي الساعة وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر ، توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك ، تطلع إليها الملك مليا وقد إكتسى وجهه بالوجوم طالباً الإتصال بطيار الملك الخاص المقدم جسام لجلب الطائرة المروحية في باحة القصر وناولها إلى الأمير عبدالاله الذي لم يقدر على إخفاء ارتباكه حال الإطلاع عليها , موجها الملك بأنه لا داعي للطائرة للهرب وأنه سيتصرف لمعاقبة القطعات المتمردة لأنه عرف من أين إنطلقت ويشتبه ببعض عناصرها ، ثم إستأذن الحاضرين وخرج من القصر.

كانت الرسالة من مدير الأمن العام تتضمن معلومات مقتضبة تفيد بوجود تحركات مريبة من قبل الجيش ، دون إيراد تفاصيل ، وكان خروج عبدالاله من القصر لكي يستدعي مدير الأمن العام ليبحث معه مصادر المعلومات وماهي هذه التحركات لكن الوقت كان مثل السيف ، ولم يتح فرصة كافية لإحتواء الموقف ، وحينما عاد عبدالاله إلى القصر تاركاً التحقيق في الأمر إلى اليوم التالي ، كان تحرك اللواء العشرين بقيادة عبد السلام عارف على طريق جلولاء – بغداد قد بدأ ، وأصبح حكم القدر قاب قوسين عن قصر الرحاب ، وكان الملك الشاب يحاول إخفاء هواجسه التي تنطوي عليها تساؤلات الأميرات عن سبب غياب الوصي ومحتوى الرسالة ، وبعد العشاء عانق الملك خالاته وقريباته من الأميرات عناقاً كان يبدو وكأنه الوداع الأخير أو العشاء الملكي الأخير ، ثم توجه الملك إلى جناح نومه آملاً للنهوض مبكراً إستعداداً ليوم عمل شاق يتخلله التحضير للسفر، وما أن حان منتصف الليل حتى أطفئت أنوار قصر الرحاب بإنتظار صباح جديد .

تفاصيل الهجوم على قصر الرحاب ومصرع العائلة المالكة

في حدود الساعة الخامسة من يوم الأثنين صباح 14 يوليو/ تموز من ذلك العام إستيقظ الجميع على أصوات طلقات نارية هب الجميع فزعين الملك والوصي والأميرات والخدم ، وخرج أفراد الحرس الملكي إلى حدائق القصر يستقصون مصادر النيران وإزداد رشق الرصاص والإطلاق نحو جهة القصر ، ولم يهتد الحرس إلى مصدر النيران في البداية ، وخرج الملك فيصل من جناحه وقد ارتدى ملابسه وخاطب الحراس من أعلى الشرفة مستفسراً عما حصل ومن شرفة قريبة طلب عبدالاله إستدعاء آمر الحرس الملكي و من حراس آخرين بأن يذهبوا إلى خارج القصر ليروا ماذا حصل وعاد الحراس ليخبروا الملك الواقف على الشرفة مع أفراد الأسرة بأنهم شاهدوا عدداً من الجنود يطوقون القصر ، وبعد إستفسار الملك عن الموضوع أخبره العقيد طه البامرني آمر الحرس الملكي بأن أوامر صدرت لهم بتطويق القصر والمرابطة أمامه .

وسرعان ما إنهال الرصاص ورشقات الرصاص على القصر وتراجع الجميع إلى الداخل ليتبادلوا الرأي حول ما حدث ، وقال عبدالاله أنه يعتقد أن هذه حركة مسلحة لقلب نظام الحكم ، قام الملك وعبد الاله بعدد من الإتصالات مع بعض الآمرين طالبين منهم إستجلاء الموقف والتحرك السريع وجاءت التطمينات بأن القطعات الموالية ستجري اللازم للتصدي للمهاجمين مما طمأن الملك وعائلته بالبقاء في القصر وعدم التحصن والإختباء في أماكن أكثر أمناً ، إلا إنه في حقيقة الأمر كانت القطعات الموالية للملك تشتبك بصعوبة مع القوات الحركة المهاجمة في مواقع مختلفة من العاصمة لان القوات المهاجمة أمنت عنصر المباغتة وسيطرت على أهم المواقع الإستراتيجية في العاصمة قبل تحرك القوات الموالية للملك .

دخل آمر الحرس الملكي مستأذناً مقابلة الملك ، ليخبره بأن الجيش قام بحركة عسكرية ، وقد أخبر آمر الحرس الملك بأن قوات الحرس المرابطة حولة مشتبكة مع المهاجمين . وقد إستفسر الأمير عبد الاله من آمر الحرس الملكي عن هوية المهاجمين فذكر له أسماء بعضهم ممن وردت أسمائهم من قبل المهاجمين ، وسارع الملك عبد الاله لفتح المذياع لسماع البيان الأول للحركة كالرعد يشق مسامعهم ومع مرور الوقت سريعاً بدأت تتوالى بيانات الثورة وترد أسماء الضباط المساهمين بالحركة .

وفي المرة الثانية أخبر آمر الحرس الملكي الملك بأن قطعات الجيش المتمردة سيطرت على النقاط الرئيسية في بغداد وأعلنوا الجمهورية وأنهم يطلبون من العائلة الملكية تسليم نفسها . وقد حققت سيطرة تامة على أهم المواقع الإستراتيجية في العاصمة قبل تحرك القوات الموالية للملك ولعبت البيانات الصادرة من إذاعة بغداد دوراً معنوياً كبيراً حيث أسهمت بإعطاء الإنطباع بأن كل شيء قد إنتهى وأن الخطوة الأخيرة للنظام هي الإستسلام .

وبعد أن أصبح القتال حول القصر الملكي أكثر ضراوةً وتوالى إعلان بيانات الحركة الرنانة ذات الشعارات الثورية والتي كانت تعقبها مارشات عسكرية وأناشيد وطنية وأهازيج عراقية تلتها أنشودة “الله أكبر” و”أخي جاوز الظالمون المدى” للموسيقار محمد عبد الوهاب وبعض أناشيد الأخرى المؤثرة كأنشودة “والله زمان يا سلاحي” لأم كلثوم والذي أصبح لاحقاً السلام الجمهوري للعراق ومصر وسوريا .

وتذكر بعض المصادر الضعيفة بأن الأمير عبدالاله حاول الإتصال تلفونيا بزعيم الثورة عبدالكريم قاسم إلا إنه أخفق بالتعرف على مكان تواجده ، وقد فوجئ الملك وعبد الاله براديو بغداد وهو يذيع اسم العميد ناجي طالب مرافق الملك السابق من بين أسماء الحكومة الجديدة .

وعلى وقع تسارع الأحداث وحصار الملك وأسرته ، توصلت العائلة الملكية بعد مداولة مرتبكة بأنه لا مانع لديهم من الرحيل من البلد إذا كانت رغبة قادة الحركة ذلك .

وعند الساعة الثامنة صباحاً أعلن الملك إستسلامه وطلب منه الخروج مع من معه ، ودخل أحد الضباط المهاجمين إلى القصر لإستقبال الملك وعائلته وهو الضابط عبدالستار سبع العبوسي , وخرج مع الملك كل من الأمير عبد الاله وأمه الملكة نفيسة جدة الملك والأميرة عابدية زوجه عبد الإله ، ثم الأميرة هيام أخته ، والوصيفة رازقية وطباخ تركي وأحد المرافقين وإثنان من عناصر الحرس الملكي .

خرج الجميع يتقدمهم المقدم محمد الشيخ لطيف ، والعقيد طه والنقيب مصطفى عبد الله الذي كان متوتراً وبعض الضباط الآخرين ، وبعد تجمع الأسرة في باحة صغيرة في الحديقة ، وبشكل مفاجيء فتح النار النقيب عبد الستار سبع العبوسي بدون أي أوامر من الضباط الأرفع رتبة والذي كان بمعيتهم ( ولكن بعض المقربين قالوا ان هذا الأمر دبر بليل دون علم اغلب الضباط ومن ضمنهم الزعيم لأنهم إتفقوا على ضمان حياة الأسرة المالكة ) ، وكان العبوسي عندما فتح نيران رشاشته كان خلف الجمع وقد أصاب الملك في مقتل برصاصتين في رأسه ورقبته وأصيب الأمير عبد الاله في ظهره ثم لقي حتفه هو الآخر وتوفيت على الفور الملكة نفيسة والأميرة عابدية وجرحت الأميرة هيام في فخذها ، وتذكر بعض المصادر بأن حادث إطلاق النار جاء بطريق الخطأ من قبل الحرس الملكي الذي رد عليه المهاجمون وكانت العائلة المالكة في منتصف خط الرمي ، وتذكر مصادر أخرى بأن حالة الحماس والإرتباك حملت بعض الضباط من صغار الرتب من غير المنضبطين بالشروع بإطلاق النار بعد أن فتح النقيب عبدالستار سبع النار على العائلة المالكة .

وتوفي أحد عناصر الحرس الملكي بعدة طلقات نارية صرعته فوراً ، وجرحت الوصيفة رازقية ، وقتل الطباخ التركي ، وقتل أحد أفراد المرافقين في المكان ذاته وأصيب وقتل عدد من ضباط ومراتب الحرس الملكي ومن القوة المهاجمة اصيب النقيب مصطفى عبد الله بطلقة نارية بصدره والنقيب حميد السراج وقد أصابته طلقة نارية في كعب قدمه وسقط ضابط صف برتبة رئيس عرفاء قتيلاً من المهاجمين ، أما الأميرة هيام فقد تم إخلائهما إلى المستشفى الملكي لمعالجتها ومعها الوصيفة رازقية حيث شفيتا من جراحهما.

وتم نقل الجثامين إلى دائرة الطب العدلي في المستشفى المدني في الباب المعظم حيث وريت جثث النساء في المقبرة المجاورة وأحيل باقي الجرحى إلى مستشفى الرشيد العسكري عدا جثة الأمير عبد الاله التي تم سحلها ثم تعليقها على باب وزارة الدفاع في نفس المكان الذي اصدر أوامره بإعدام الضباط الأربعة الوزراء في ثورة رشيد عالي باشا الكيلاني عام 1941.

وفي مستشفى الرشيد العسكري حيث نقلت جثة الملك إلى إحدى غرف العمليات ، للتحقق من وفاة الملك ، وفي مساء اليوم نفسه حفرت حفرة قريبة من المستشفى في معسكر الرشيد ، وأنزلت فيها الجثة ورمي عليها التراب ووضعت بعض العلامات الفارقة معها لتدل على مكانها فيما بعد ، ثم تم نقل الجثة بشكل خفي ودفنها في المقبرة الملكية في الأعظمية في مكان يقال إنه تحت إحدى الممرات خوفاً من إخراج الجثة من القبر .

الأميرة فاضلة خطيبة الملك فيصل الثاني

في صباح 14 تموز 1958 كانت الإستعدادات قائمة في مطار ( يشيل كوي) بإستانبول لإستقبال الملك فيصل الثاني وكان رئيس الوزراء عدنان مندريس على رأس الوفد الذي كان ينتظر وصول الملك العراقي إلا أن الجميع فوجئ بوقوع الإنقلاب في العراق لم تعرف عائلة الأميرة ( فاضلة ) خطيبة الملك فيصل ، تفاصيل الأحداث المروعة للإنقلاب إلا بعد أيام حيث علموا بمصير الأمير عبدالاله ورئيس الوزراء نوري السعيد والملك فيصل الذي كان يبلغ الثالثة والعشرين من عمره والذي أصيب بجروح بليغة كانت العلاقات العراق مع تركيا في أوج إزدهارها وكانت قصة خطوبة الملك فيصل الثاني للأميرة فاضلة حفيدة آخر السلاطين العثمانيين وحيد الدين قد بدأت في صيف 1957 تنتمي فاضلة التي ولدت في باريس عام 1940 إلى عائلة عريقة من جهة أمها الأميرة ( زهرة خانزاده ) فهي كريمة عمر فاروق أفندي نجل السلطان العثماني عبدالمجيد الثاني وإبنة الأميرة صبيحة كريمة آخر السلاطين العثمانيين وحيد الدين ، وقد تزوجت الأميرة خانزاده من زوجها الأمير محمد علي إبراهيم في القاهرة عام 1940 وتوفيت في باريس عام 1977 وبذلك فإن الأميرة فاضلة ، عثمانية من جهة أمها ومصرية من جهة الأب إضطرت فاضلة إلى مغادرة تركيا مع عائلتها وهي إبنة أربعة أشهر عقب صدور قرار من الحكومة التركية بنفي كل من ينتمي بصلة القرابة إلى عائلة السلطان العثماني حيث عاشت متنقلة مع عائلتها في مدن عديدة مثل : نيس والقاهرة والإسكندرية قبل أن تعود مع عائلتها إلى تركيا عام 1954 كانت فاضلة ذات جمال فاتن وأخاذ وقد تعرفت على الملك فيصل في حزيران عام 1954 في حفل أقيم في بغداد أثناء زيارة عائلتها للعاصمة العراقية بعد سنة من هذا التعارف كان اللقاء الثاني بينهما في فرنسا ، حيث قررا الزواج زار الملك فيصل إستانبول في 1957 وإلتقى مع فاضلة في جولة بحرية ، على متن يخت الأميرة خانزاده وتكررت اللقاءات وتوثقت عرى العلاقات العاطفية بينهما ، فكان أن تم إعلان الخطوبة في 13 أيلول 1957 بعد أن تقدم الملك رسمياً للزواج منها بعد يومين من عودة الملك إلى بغداد ، أعلن رئيس ديوان التشريفات علي جودت نبأ الخطوبة توجهت فاضلة بعد إعلان الخطوبة رسمياً ، إلى فرنسا ومنها إلى لندن لتلقي دروس في مدرسة ( فينشينك اسكول ) إستعداداً للزواج كان الملك يقوم أحياناً أثناء زيارته لإستانبول ، بزيارة خطيبته فاضلة ، ومنها كانا يقومان بزيارة بعض الدول الأوربية ، وكانت الصحف والمجلات تنشر صوراً مختلفة للخطيبين السعيدين كما قامت الأميرة مع والديها بزيارة بغداد قبل الإنقلاب بعدة أسابيع وعادت منها إلى مدرستها في لندن وقع خبر مقتل الملك على خطيبته فاضلة كالصاعقة ، بعد إستماعها إلى نشرة أخبار الإذاعة البريطانية ، من جهاز الراديو الموضوع في صالة المدرسة إنهمرت الدموع من عينيها الخضراويين ، وهرعت زميلاتها يواسينها تخفيفاً للحادث المرعب ، التي ظلت تعاني منه فترة طويلة ، عاشت خلاله ذهولاً تاماً .

أسرار خلاف عبدالسلام مع والده

إن والد عبدالسلام هو الحاج محمد عارف رحمه الله كان من تجار الأقمشة المعروفين في محلة الكرخ وكان من المعارضين للحكم الملكي وللساسة الذين تعاقبوا على الوزارات ، وعندما قامت ثورة 1958 ، وعندما جاء ولده إلى البيت بعد تنفيذ الثورة وهو محاطاً بثلة من المرافقين والجنود وسط زغاريد أهل المحلة ، وعندما ترجل من السيارة و دخل باحة البيت متوقعا أن يأتي والده ليأخذه بالأحضان ويهنئه على نجاح الثورة وعند السؤال عنه قالوا له إنه معتكف داخل البيت فقصده إلى غرفته ومعه مرافقيه وقال لوالده معاتبا كيف لا تستقبلني يا والدي وقد حققت لك حلمك الوطني حيث شاركت بالثورة وأبدت العائلة المالكة فرد عليه والده بصوت عالي ومرتفع يصل إلى حد الإهانة إذن أنت بلسانك تقول قتلت العائلة ! ( هل من الوطنية يا عبدالسلام أن تقتل العائلة المالكة بهذا الشكل وأين ما كنت أردد عليكم وصايا ديننا الحنيف التي لا تجيز التمثيل حتى بالكلب العقور وأن فعلكم هذا غير صحيح وأنا ممتعض ومستاء لا بل خجل من الناس لأنك إبني .

الزعيم يلقي اللوم على عبدالسلام لتصفية العائلة المالكة

كانت أفكار عارف غير واضحة يؤمن اليوم بشيء وفي اليوم الآخر يفنده ، ويذكر أغلب الأشخاص المرافقين له إنه كان لا يفهم من المباديء والأفكار السياسية سوى مصلحته الشخصية وطموحه الجموح وليست لديه أي عقيدة فهو يغدر باخيه وولده وبكل شيء من أجل أن يبرز ، يقول عنه علي صالح السعدي أمين سر قيادة البعث أن عبدالسلام كان طموحاً كبيراً على حساب كل شيء فهو شخص يعيش في تناقض يومي بين إدعاءاته وبين سلوكه ، يقول علي مصطفى وزير العدل في حكومة الزعيم أن عبدالكريم قاسم جاء بثورة عظمية ولكن جاء بفنائها حيث جاء بعبدالسلام عارف معها وبعد أن نجحت الثورة حتى بدأ الخلاف يدب بين الزعيم وعارف ومنذ اليوم الأول من الثورة بالرغم من صداقاتهما القديمة وكان سبب الخلاف طموح عارف نحو السلطة ومحاولة إيجاد المبررات لإزاحة عبدالكريم ، وقد حدث الخلاف الأول جول تصفية العائلة المالكة بالشكل الذي تمت عليه ، اذ أن الزعيم عبدالكريم قاسم غير مقتنع بقتلهم وأخذ الزعيم يلقي اللوم على عبدالسلام عارف لكونه هو الذي أمر بتصفيتهم خلافاً لما كان متفقاً عليه وهو تسفير العائلة المالكة خارج العراق ومحاكمة الوصي عبدالاله ونوري السعيد ، وكان هذا الحديث أمام الكثير من الضباط ومرافقي الزعيم وصفي طاهر وقاسم الجنابي .

التفاصيل الكاملة لإنقلاب شباط الأسود

العاصمة العراقية هادئة تماماً . ونلاحظ أعداداً كبيرة من المسلحين المدنيين يمخرون الشوارع أنهم أعضاء « الحرس القومي » ، الذين يحملون أشرطة نسيجية خضر على سواعدهم وينسقون مع رجال الشرطة وهم يتحركون تحت إشراف من الجيش بشكل واسع ، إلا إن مهمتهم الأساسية هي قنص الشيوعيين ، وهي عملية بوشرت حال توقف المقاومة في وزارة الدفاع. هناك عدد من الشيوعيين ظل حتى يوم الثلاثاء 12 شباط يواصل خوض معارك صغيرة في عدد من الأحياء ضد الحرس القومي ، لكن هذه المعارك تبدو بمثابة النزع الأخير في مقاومة توشك على الإنطفاء أما الإعتقالات فهي من الضخامة إلى درجة يستحيل علينا الآن إعطاء رقم محدد عنها الكثير من عمليات الإعتقال تتم لمجرد الشبهة أو الوشاية ولقد جرى إنشاء معسكرات إعتقال جماعية كبيرة في وسط الثكنات العسكرية وأينما أمكن ، لإلقاء كافة المدنيين الذين إعتقلوا في غضون أيام الإنقلاب المنصرمة ولم يعدموا بعد لكن الإعدامات التي جرت لغيرهم هي بإعداد لا تحصى وبدون محاكمة ، إن عدد الذين قتلوا لحد الآن لم يتم الكشف عنه بعد ففي وزارة الخارجية يقولون عن إحتمال إن العدد هو « أربعون ضحية » ، ثم يضيفون مستدركين : « إن الرقم لم يتحدد بعد على وجه الدقة » لكن التقديرات الحقيقية الأكثر تواضعاً وإتزاناً وتتحدث عن سقوط إلف قتيل على أقل تقدير في العاصمة بغداد وحدها حتى الآن .

في اللحظة الحالية تستعيد بغداد حركة شبه عادية ، والأجواء بدأت تتجه نحو الهدوء إذ يبدو إن يوم السبت 9 شباط كان بإقرار الجميع اليوم الأكثر رعباً لذا فقد حبس الناس أنفسهم في المنازل حيث حصل قطع في الكهرباء كما إن أصوات رشقات الرشاشات كانت تسمع في أركان الشوارع وبينما كانت الأوامر والأوامر المضادة تذاع من الراديو ، كان شبان من حملة الأشرطة الخضراء على السواعد يمارسون ما يشبه لعبة الحروب الصغيرة مقيمين دكتاتورياتهم في كل حيّ التجول لا يتم إلا بتصريح خاص يرخص به ، إلا إن أولئك الذين بحاجة ماسة له لا يعرفون لمن يتوجهون بالطلب لإستحصاله وحتى عندما ينجحون في الحصول على مثل تلك التصريحات فأنهم لا يجدون من يعترف لهم بصفتها الرسمية وكمثال على حملات « التطهير » الواسعة ما حصل في وزارة مهمة كوزارة النفط ، حيث لم يسلم فيها سوى أثنين من الموظفين بينما إلقي القبض على كافة العاملين في الوزارة حتى صغار السن منهم وأرسلوا إلى المعتقلات ، ففي الأوساط الرسمية للنظام الجديد نسمعهم يقولون بشكل دائم : “لدينا قوائم بأسماء جميع الشيوعيين ولن نترك أحداً منهم يفلت من يدنا” والقلق كبير جداً في أوساط المسيحيين الكلدان الذين ، كما يقال ، إصطفوا مع الشيوعيين إن الأضرار المادية أقل مما تم تخيله ، إذ كانت وزارة الدفاع مركز الهجمات الجوية ، ومن الواضح بداهة إنها تعرضت للقصف بكثير من القذائف والتي بمعظمها لم تكن صواريخ إنما قنابل صغيرة العيار ، وإن كان كلام راديو بغداد خلال الساعات الأولى بعد إنقلاب يوم الجمعة المصادف 8 شباط ، الذي أكّد قائلاً « لقد سحقت الدكتاتورية الخائنة كالجرذ تحت أنقاض وزارة الدفاع »، أوحى بالإعتقاد بأن الوزارة تعرضت لتدمير شبه كلّي عموماً ، ورغم آثار المعارك فيها ليس لبغداد هيئة مدينة مهدمة تحت القصف بما في ذلك أحياؤها الأكثر تعرضاً للإصابات ، أما عن كيفية حصول الإنقلاب الذي قامت به مجموعة من العسكريين المتمردين في يوم الجمعة الذي يصادف اليوم الرابع عشر من شهر رمضان ، فإن التفاصيل أصبحت معروفة الآن لدينا ، لم يكن الزعيم عبد الكريم قاسم موجوداً في وزارة الدفاع ، التي هي مقر إقامته الإعتيادي ، في اللحظة التي قامت فيها طائرات قاعدة الحبانية بمباشرة هجماتها صبيحة يوم 8 شباط فيوم الجمعة هذا كان كغيره يوم التعطيل الأسبوعي للمؤسسات الرسمية والخاصة فقد كان السكان قد سهروا حتى وقت متأخر ، وكانت الشوارع خالية إلا من عدد قليل من المارة كما ذكرت الإذاعة العراقية إن الزعيم عبد الكريم قاسم قام في ليلة الخميس على الجمعة بواحدة من جولاته التفقدية التي إعتاد القيام بها إلى عدد من أحياء العاصمة ، وفي الساعة الثامنة والنصف توقف البث الإذاعي فجأة” ثم تبين إن فريقاً صغيراً من العسكريين إستطاع الإستيلاء على محطة الإرسال الإذاعي الواقعة في منطقة تبعد حوالي خمسة كيلومترات شمال شرقي بغداد وقد تكوّن الفريق من بعض الضباط الشباب شأن معظم الذين شاركوا في تنفيذ هذا الإنقلاب العسكري في نفس الوقت ، بوغت قائد الجوية العراقية ( الزعيم جلال الأوقاتي ) بجماعة أخرى من صغار الضباط نجحت بإقتحام منزله وسارع أفرادها إلى غرس بنادقهم الرشاشة في صدره طالبين منه أن يضع توقيعه على أمر يقضي بشن عملية جوية ضد وزارة الدفاع مقر إقامة الزعيم قاسم . ولما رفض أن يفعل ذلك ، إزداد الضباط الشباب حدة في عدوانيتهم . عندئذ وضع الزعيم ( الأوقاتي ) أحد أطفاله في أحضانه معتقداً إن ذلك كفيل بردعهم قليلاً ، إلا إنهم على العكس صاروا أشدّ شراسة وخطراً في تهديدهم وهنا وتحت فوهات البنادق الرشاشة المتحفزة نحو رأسه وافق على توقيع أمر القيام بالعملية بيد أنهم وحال إنتهائه من وضع توقيعه أطلقوا عليه رشقات رصاص عدة أردته قتيلاً في الحال ، هذه هي البداية الفعلية الأولى لعملية تنفيذ الإنقلاب العسكري وفي تلك اللحظة كانت عدة طائرات قادمة من قاعدة الحبانية قد ظهرت فجأة” فوق قاعدة عسكرية أخرى كائنة في موقع جنوب غربي بغداد تسمى بـ « معسكر الرشيد » يرابط فيها عادة قسم مهم من القوة الجوية والدبابات فالجماعة المتمردة كانت تعرف مسبقاً بأنها لا تمتلك أي حظ في كسب ضباط الجو العاملين في معسكر الرشيد إلى جانبها . لذلك سارعت عبر عمليات قصف نُفذت جيداً ، إلى تدمير جميع أسراب الطائرات الرابضة هناك خلال بضعة دقائق فقط وبفضل الفوضى التي نتجت عن ذلك بوشرت الهجمات الجوية على مقر وزارة الدفاع الوطني . حيث كانت الطائرات القادمة من معسكر الحبانية تحلق على إرتفاع منخفض مقتفية مسار مياه دجلة المتاخم للجانب الشمالي من وزارة الدفاع ، قبل أن تنطلق لتلقي قذائفها فوقها ثم تصعد محلقة عالياً في سماء مدينة بغداد نفسها ، هذه الفعاليات الجوية التي أيقظت جميع سكان بغداد من نومهم أعطت الإنطباع خلال بعض الوقت بأن ما يجري هو مجرد مناورة جوية غير إن راديو بغداد سرعان ما باشر بإذاعة البيان رقم واحد الصادر من « المجلس الوطني لقيادة الثورة » الذي أعلن « إن عبدالكريم قاسم إنتهى بعد أن سحقته تحت أنقاض وزارة الدفاع » لكن وحتى تلك اللحظة لم يكن الأمر كذلك في الواقع بل أن الزعيم لم يكن في أي من المباني التي كانت الطائرات تهاجمها .

ففي فجر ذلك اليوم وبعد إختتام جولته التفقدية المعتادة في شوارع بغداد النائمة فإنه فوجئ شأنه شأن باقي سكان بغداد ، بحصول الهجمات الجوية ، ولقد ظل على إتصال تلفوني مع الوزارة لحوالي الساعتين قبل أن يذهب بنفسه إلى مقر قيادته العامة في حوالي ما بين العاشرة والعاشرة والنصف صباحاً مخترقاً بسيارته جموع المواطنين ورافعا أصابعه إلى الأعلى تشير بعلامة النصر ليتولى بنفسه قيادة المقاومة ضد الإنقلاب العسكري فقبل أن يدخل مباني الوزارة المقصوفة ، تجول في عدد من أحياء بغداد ، ظاهراً بنفسه أمام السكان بهدف تبديد آثار الإعلان عن موته عبر إذاعة بغداد ، ولقد بدأ قاسم مطمئناً جداً بينما كانت الأوساط الشعبية البغدادية تعبر له عن حبها بشكل صادق وهي تعلن تضامنها معه في تلك اللحظة الحرجة . في وزارة الدفاع كانت هناك كتيبة معززة بحوالي سبعمائة رجل ، هي بمثابة الحرس الاعتيادي للحكومة ولقائد الثورة . لكنها في تلك الجمعة من رمضان ، لم تكن قط في حالة إعداد مسبق لمقاومة هجمة جوية ، بينما لم يكن هناك شيء خلال الساعات الأولى من الإنقلاب العسكري سوى الهجمات الجوية والطائرات المستخدمة هي من طراز « ميغ » و« هوكر هنتر » ، وكانت تطير على إنفراد أو زوجياً قبل أن تلقي قنابلها الصغيرة وصواريخها الموجهة بدقة كبيرة وكان السكان في تلك الساعة يتابعون معركة إذاعية بين محطتي الراديو والتلفزيون حيث كان الراديو الذي سقط بأيدي المتمردين يعلن موت قاسم ، بينما كانت محطة التلفزيون ، التي يبدو أن « المجلس الوطني لقيادة الثورة » نسيها في حساباته ، تعلن من جانبها أن « الزعيم الأمين » لا يزال على قيد الحياة وهو الذي يقود المقاومة ، كما راحت تبث أشرطة يظهر فيها وهو يخطب في الجماهير . عندئذ ، وبعد أن فشلت محاولاته العديدة لقطع البث التلفزيوني عبر الأوامر الهاتفية ، أصدر « المجلس الوطني للثورة » أوامره للطائرات بقصف مبنى التلفزيون وبإنقطاع البث التلفزيوني فجأة هكذا ، خسر قاسم الوسيلة الوحيدة التي ظلت بيده للحفاظ على قناة إتصال مع جماهير الشعب في بغداد حتى نهاية صباح يوم الجمعة ذاك ، كان قاسم لا يزال صامداً ، حيث إستطاع العسكريون السبعمائة الموجودون في وزارة الدفاع أن ينظموا مقاومة كفيلة بتعريض الطائرات التي تحاول مهاجمتها إلى الخطر ، وهنا جاء تدخل المدرعات بمثابة المرحلة الثانية في عملية التمرد ، إذ إنه هو الذي سيقلب كفة الوضع لصالح الضباط الشباب الذين كانوا قد حضروا للإنقلاب بجرأة لكن بشكل عجول جداً في ذات الوقت ، ففي بغداد معسكران كبيران أحدهما يعرف باسم « معسكر الرشيد » والآخر بإسم « الوشاش » ، تتواجد في كل منهما إعداد مهمة من القوات المدرعة ، ورغم أن قوات الوشاش أعلنت تأييدها للإنقلاب العسكري منذ الدقائق الأولى للتمرد ، فإنه كان ينبغي الإنتظار حتى بداية ما بعد الظهيرة ، لكي نرى الدبابات تظهر في شوارع بغداد لتقوم بتطويق وزارة الدفاع من بعيد ، وذلك لأن العمليات الجوية للطائرات منعتها من الإقتراب جداً من مباني الوزارة المحاصرة ، وهنا ومن داخل الوزارة راح قاسم يحاول التمكن من إستقدام القوات المدرعة المرابطة في معسكر الرشيد لتجيء في نجدته ، غير إنه كان يواجه رفضاً مبطناً من لدن المسؤولين فيها حيث كان قائد القوات المدرعة في معسكر الرشيد يراوغ زاعماً بأنه عاجز عن القيام بشيء لكنهم يقولون اليوم في بغداد إن ضباط المدرعات كانوا يعتقدون منذ 18 كانون الأول 1962 ، بأن قاسم يشك في ولائهم ، حيث قام في أحد الإجتماعات العسكرية معهم بإبراز ورقة مطوية في يده وهو يقول لهم “إنني أعرف إن بينكم من يحضر لمؤامرة ولديّ في هذه الورقة أسماؤهم وبعضهم من كبار الضباط” ، وهكذا فمنذ ذلك التاريخ وضباط المدرعات لا يضمرون إلا ثقة متأرجحة بقائد الثورة العراقية ، أما الضباط الذين لم يتهمهم بشيء فأنهم هم أيضاً خذلوه ولم يتحركوا للدفاع عنه في ذلك اليوم حيث كان قاسم بأمس الحاجة لهم .

إبتداءً من الساعة الخامسة مساءً ، أصبحت الطائرات أقل عدداً نتيجة نجاح الدفاعات الجوية الموجودة في وزارة الدفاع بإسقاط واحدة منها فالمقاومة فيها كانت متواصلة بعد ، غير أن التعزيزات العسكرية التي أخذت تصل إلى المتمردين تزايدت بإستمرار ، وفي حوالي الساعة السادسة والنصف مساء كانت العاصمة قد شهدت وصول وحدات قادمة من معسكر ثالث أكثر بعداً عن العاصمة ، كانت الدبابات المسبوقة بسيارات جيب يجلس فيها عدد من الضباط ، تأخُذ مواقعها بشكل بطيء وحذر أول الأمر ، ثم بعد برهة تبدأ بدورها بإمطار قذائفها على مباني وزارة الدفاع إبتداءً من هذه اللحظة فقط أصبح مؤكداً إن قاسم خسر المعركة واليوم بعد عودة الهدوء فإن كل من يحلل عملية الإنقلاب مقتنع بأنها أعدت بشكل سيئ وأن المتمردين ما كانوا يستطيعون الإطاحة بقاسم لولا الحظ الكبير الذي حالفهم .

الساعات الأخيرة في وزارة الدفاع

لقد جرت مواجهات هاتفية عديدة بين عبدالكريم قاسم مع قادة التمرد ولا سيما مع عبد السلام عارف الذي أصبح رئيساً للجمهورية في ( حكومة الإنقلاب العسكري ) ، « بمَ تستطيعون اتهامي؟ » كان قاسم يسأله بإلحاح ، وعارف يكتفي بالجواب «نريد منك أن تستسلم» . ولقد عرض قاسم أن يسمحوا له بمغادرة العراق طالباً ضمان إنتقاله . لكنه وبمواجهة الرفض الذي قوبل به كانت هناك تطمينات من بعض القادة ظهرت إنها خدعة والقصد منها إلقاء القبض عليه ، إلا إن الوزارة كانت تحت القصف من كل جانب وأمام إستمرار القصف على وزارة الدفاع عادت المجادلات الهاتفية بين قاسم وعارف ، فالزعيم قاسم يطلب أن تضمن له حياته ويطلب محاكمة عادلة إن كان مذنباً ، وعندما توقف القتال وبدأ المظليون يتوغلون بإحتراس داخل وزارة الدفاع بغرض إعتقال قاسم والمجموعة الأخيرة من الأوفياء له ، كان قاسم موجوداً في المسجد داخل وزارة الدفاع ، غير إن العسكريين المتوغلين لم يقدموا على إعدامه في الحال إنما إقتادوه إلى دار الإذاعة في بغداد ومعه العقيد فاضل عباس المهداوي ( الرئيس السابق لمحكمة الشعب ) والعقيد طه الشيخ أحمد والرئيس الأول خليل كنعان .

أسرار النداء الذي وجهته السفارة الروسية للزعيم قاسم وهو محاصر داخل وزارة الدفاع

بينما كانت وزارة الدفاع محاصرة من جميع الجهات والطائرات والأسلحة الأخرى تدك هذا الموقع الذي أخذ الزعيم عبدالكريم قاسم موقعاً فيه هو ضباطه وجنوده الشرفاء يدافعون ببسالة وشجاعة قل نظيرها في تاريخ العراق المعاصر ، محدثين ملحمة رائعة للدفاع عن شرف وقدسية الجندية العراقية ، وبينما هم في إحدى قاعات وزارة الدفاع ويسمعون مكبرات الصوت تطلب منهم ومن زعيمهم بالإستسلام وسط ضجيج أصوات الطائرات والقنابل التي جعلت هذا المكان جحيماً لا يطاق ، رن جرس التلفون الذي كان قريباً من الزعيم والذي إستخدمه للإتصال بالقادة وآمري الوحدات بالوثوب في وجه الطغيان ولكن البعض منهم قد إرتمى في أحضان الخيانة خدمة للإستعمار والرجعية العربية ، فاشر لمرافقه الأقدم وصفي طاهر أن يرد على المكالمة فرفع وصفي التلفون وعندما قال له نعم كان على الطرف الآخر المتحدث بأسم السفارة الروسية ببغداد فقال له أريد أتكلم مع الزعيم قاسم فقال الزعيم لوصفي قل له أنا بدلاً عن الزعيم فقال له المتحدث الروسي قل للزعيم إن القيادة في روسيا جاهزة للرد على هذا الهجوم وإسقاطه خلال ساعة واحدة ، فقال الزعيم قاسم لوصفي قل لهم إن الزعيم عبدالكريم قاسم يقول لكم شكراً فأنا لا أبدل الإستعمار الإنكليزي الذي تخلصنا منه بإستعمار روسي جديد ..!! .

النهاية المأساوية
في الإذاعة بدأ عبد السلام عارف بنفسه إستجواب الزعيم قاسم ، وكان إستجواباً حسب رواية العديد من الشهود ، خاطفاً ومأساوياً في ذات الوقت فكل ما كان يهم عارف في الإستجواب هو أن ينطق قاسم أمامه انه إي قاسم « لم يكن القائد الحقيقي لثورة 14 تموز 1958 » ، وانه « خان الثورة » وبينما كان المجلس العسكري المجموع على عجل ، في إحدى قاعات الإذاعة يجهد لتلبيس إعدام قاسم ورفاقه الثلاثة لباساً قانونياً ، كان الضباط الصغار يتشاجرون فيما بينهم لنيل “شرف” رئاسة المجموعة التي تتولّى قتل عبد الكريم قاسم . وقد إنتهى الأمر بإختيار عبد المنعم حميد كونه معتقل سابق بتهمة محاولة إنقلاب ضد الزعيم وعفى عنه ، وفور إنطلاق رشقات الرصاص التي أودت بحياة عبد الكريم قاسم والمهداوي وطه الشيخ أحمد وخليل كنعان ( وكان الأولان جالسان على كرسيين والأخيران واقفان ) سارع راديو بغداد إلى إعلان نبأ الإعدام حتى قبل أن يذيع نبأ إعتقالهم .. وهنا أيضاً جرى البحث عن شخص يستحق شرف إعلان “موت الزعيم” على الشعب العراقي وقد جرى في النهاية إختيار بنت الزعيم الطبقجلي لأن أبيها كان بين الذين حكم عليهم بالإعدام بتهمة التآمر مع دولة عربية للإطاحة بنظام الحكم الجمهوري من قبل محكمة الشعب برئاسة العقيد المهداوي ، أعدم الزعيم عبد الكريم قاسم في إستوديو الموسيقى في دار الإذاعة ببغداد في الصالحية ، والتي إستخدمت كمقر لقادة التمرد ضد نظامه في 8 شباط لقد مات قاسم بشجاعة ، فهو رفض أن تعصب عينيه إلا انه كان الوحيد بين الرجال الذين اعدموا معه الذي كبلت يديه إلى بعضهما خلف الظهر وكانت الكلمات الأخيرة التي أطلقها قبل إعدامه : « إنكم تستطيعون قتلي غير إن اسمي سيظل خالداً في تاريخ الشعب العراقي وصاح بأعلى صوته فليحيا العراق فليحيا العراق فليحيا العراق » وفي فيلم الإعدام الذي بثه تلفزيون بغداد مساء يوم السبت التاسع من شباط ( بين فيلمي كارتون أمريكيين ) نشاهد بالقرب من أجساد قاسم والرجال الثلاثة الآخرين بعضاً من الآلات الموسيقية الخاصة بفرقة الإذاعة ، لقد سلم قاسم نفسه في الساعة السادسة صباح يوم السبت لكن إعدامه لم يتم إلا في الواحدة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم الأسود .
Fialhmdany19572021@gam.
google-playkhamsatmostaqltradent