الحرير/
بقلم : د. كمال فتاح حيدر
لكل بقعة من العالم تقويمها المحلي المتداول. تقويم يجمع بين التقلبات المناخية ومسمياتها الموروثة. وربما انفردت البصرة بتقويمها المرتبط بالبحر والنهر والمرافئ وبساتين النخيل والحناء. حيث يتعامل الناس هناك مع مواسم: الأحيمر، والچلة، والأزرگ، وجويريد، وبردة العجوز، ومن هذه المواسم: موسم (طباخات الرطب)، الذي يمثل أيام الحر والعطش والأجواء الخانقة، وتكون فيه الرياح الجنوبية الشرقية مشبعة برطوبة تحبس الأنفاس، فيتحول الرَطْبُ وهو في أعذاقهِ إلى تمر ناضج، لتبدا بعد ذلك مرحلة قطفه وبيعه وتصديره، ثم يأتي فصل الخريف، فتصبح مكابس التمور على موعد مع موسم (غسالة اليواخين) الذي يحمل الزخة الأولى للأمطار، فتنهمر المياه على اليواخين (الچراديغ) لتغسلها وتنظفها من الدبس وبقايا التمر. .
ولموسم طباخات الرطب دلالات تاريخية عند السومريين والبابليين، فهو موسم الخصب في الميثولوجيا القديمة، حيث يلتقي فيه إله الخصب (تموز) مع آلهة الحب (عشتار)، ويعد من المواسم المقدسة عند أهل العراق, وقد أفرد الملك حمورابي لوائح قانونية محددة للحفاظ على النخلة في مسلته الشهيرة قبل أكثر من ستة آلاف عام. .
يبدأ موسم (طباخات الرطب) في العشرين من تموز (يوليو) وينتهي في العشرين من آب (اغسطس). وهو من أشد المواسم إزعاجا للناس، وبخاصة في السنوات التي سبقت عصر اختراع الكهرباء واجهزة التكييف. .
كانت معدلات الحرارة ترتفع في هذا الموسم إلى 45 درجة مئوية في الظل، اما الآن فقد تجاوزت معدلاتها حاجز الخمسين درجة مئوية بسبب جفاف بساتين النخيل على ضفاف شط العرب، وبسبب انكماش مساحة الاهوار شمال البصرة، وبسبب تكاثر مشاعل الغاز الطبيعي الملتهب في حقول الرميلة وأخواتها. .
تذكر المرويات الشعبية ان أحد ولاة الامبراطورية العثماني وصل ولاية البصرة في موسم طباخات الرطب، فسأل حاشيته عن أسباب الحر الخانق، قالوا له: أنها الأيام التي تنضج فيها تمور النخيل. فصرخ غاضباً: اقطعوا رؤوس النخيل. اقلعوها جذوعها من الأرض، وامنعوا زراعتها، ولن اسمح لبساتين النخيل بعد الآن برفع درجات الحرارة. .
كان ذلك الوالي الأحمق في منتهى الرعونة والغباء. ثم جاءنا من هو اغبى منه بعشرات المرات، فقد شرعت الحكومة العراقية في المدة من عام 1980 إلى عام 1988 بتنفيذ مشروعين غبيين، تلخص الأول بتجريف بساتين النخيل على امتداد الشريط الأخضر الموازي لضفاف شط العرب إبتداء من مدينة ابي الخصيب وحتى رأس البيشة، وتلخص الثاني بتجفيف أهوار جنوب العراق وحرمانها من روافدها المائية، ففقدت البصرة رئتها الطبيعية التي كانت تتنفس منها، وتعطلت فيها مصادر الرياح المنعشة، وتفجرت في ضواحيها براكين طباخات الرطب لتضرم نيرانها في أجواء البصرة، وتضيق عليها الخناق. وكان الله في عون العمال والمرضى وكبار السن. .