الحرير/
بقلم : د. كمال فتاح حيدر
على الرغم من وعورة الطريق المظلم العابر للهور بين الناصرية والبصرة، إبتداءً من ناحية سيد دخيل إلى قضاء القرنة، مروراً بمنطقة الخضر، ثم الترايمة، ثم منطقه سيد يوشع، ثم الفهود، ثم ناحية الحمّار، ثم منطقة المواجد، ثم قضاء الجبايش، ثم منطقة بهيمة، ثم النيرسي، بعدها ابو سوباط، فالصباغية، فالخرفية، ثم ناحية عزالدين سليم، ثم الهوير. . على الرغم من وعورته وخطورته لكنني أفضله على الطرق الأخرى لما يتمتع به من مزايا فريدة قلما تجدها في مكان آخر، فهو يخترق الأهوار الجنوبية حيث المسطحات المائية المترامية الاطراف. وحيث تشابكات غابات القصب والبردي. وحيث المناظر الخلابة، والبيئة النقية التي تعيدك إلى القرن الثالث قبل الميلاد. فكل ما تراه يحمل بصمات ورواسب العادات والتقاليد التي كانت شائعة في القرون الضاربة في أعماق التاريخ. .
فقد ظلت الملامح الطبيعية نفسها بلا رتوش وبلا تغيير. هناك على إمتداد هذا الطريق ينتشر القرويون والصيادون، تجمعهم قواسم مشتركة تتمثل ببشرتهم السمراء، وملامحهم الصارمة، وأجسامهم الرشيقة. ومفرداتهم اللغوية النادرة. يركبون القوارب المطلية بالقير، ويصطادون بالأدوات المعروضة في المتاحف. ويتناولون الطعام الذي كان يتناوله اجدادهم قبل مئات السنين. .
في الليل وفي حلكة الظلام الدامس تتراءى لك الجنيات الودودات يخرجن من جوف الهور. و يتجمعن حول اليشن (المقابر) القديمة. تسمع أصواتهن من بعيد. يبكين على ضياع حضارة عريقة سادت ثم بادت. .
ترتفع الأصوات قبل بزوغ الشمس، فسرعة انتقالها هناك أسرع من انتقالها فوق اليابسة. أصوات تشكل في تداخلها وتنوعها ترنيمة شجية. صوت الأذان، وزقزقة العصافير، وأصوات الوز المهاجر، وأشعة الشمس العسجدية، ونفحات النسيم العليل، وخرير الماء المتدفق في الجداول. ورائحة خبز التنور الساخن. وخوار الجواميس العائمة. حيث الصباح يتوّج الهور بالضوء والجمال. مناظر ساحرة توقف عينيك غصبا للتأمل والمشاهدة. .
وفجأة يرعبك دوي البنادق من مكان بعيد تتفجر فيه الثارات والغارات، فيتحول الهور إلى بحر يغلي بالغضب، بانتظار عودة حمورابي ليكتب بخط يده مسلة جديدة يحيي فيها السنن والأعراف والمبادئ المنسية. .