الحرير/
بقلم/زهير مهدي
اجوع … فابحث في الگوگل عن مطعم اسلامي في الارجاء، فاجد بالصدفة مطعما قريبا في مدينة ( Meridian ) من ولاية مسيسپي الامريكية ،
مطعم ( Laziz ) وامامه ساحة وقوف كبيرة تكفي لإستيعاب شاحنتي ، اُعَرِّج عليه واطفئ المحرك واترجل منها.
فتاة امريكية شقراء خلف الكاشيير تسجل طلبي
"سندويتشتان من الشاورمة من فضلك".
يبرز من خلف الفتاة ( الشيف ) الطباخ … بدى لي من سحنته انه يماني الاصل.
دفعت الحساب للفتاة مقدما ودلفت الى حمامات المطعم كي اقضي حاجة واتوضأ للصلاة ريثما يجهز طلبي.
وانا في طريقي الى الحمام اعترض طريقي ( الشيف ) اليمني وكان هو نفسه مالك المطعم.
سلمت عليه بالعربية ( السلام عليكم ) … فاستباحت وجهه ابتسامة حميمية سائلاً:
" الاخ عربي .. من وين انتة؟ "
كما توقعت فالرجل لم يستطع تمييز ما اذا كنت عربياً ام لا لان مظهري بدى مُحيراً بملابس العمل، حيث الحذاء المطري الطويل والبنطال العسكري والجاكت الفسفوري والقبعة الغريبة وحاكية الاتصال المربوطة ابداً الى اذني ولحيتي الكثة.
"نعم انا عراقي يخوك هههه …. وانتة يمني صح ؟ " قلت ضاحكاً
فنهض جمع من الشباب اليمنيين كانوا منصتين وهم جلوس الى مائدة من موائد المطعم و تحلقوا حولي.
انتظروا ( الشيف ) حتى انتهى من معانقتي فبداوا جميعا بمعانقتي الواحد تلو الاخر تغمرهم بهجة مستشيطة.
" بيض الله وجوهكم يالعراقيين مثل ما بيضتوا وجوهنا .. ايش يا اخي… ايش هالكرم و الجود … اُقسم بالله انكم احسن ناس … من اي مدينة انت؟ "
بتلك العبارات احتفوا بي كأني لاعب كرة قدم يمني عاد من البصرة بالاداء المشرف.
لم اشعر بالارباك في محادثة في حياتي قط كما اليوم، ولم اجرب حفاوة تاتي على حين غرة من العمل المضني والفكر المشتت في التركيز على طرقٍ تعبث بها العواصف و الامطار بجنون.
" أصلي بصراوي و ولادتي ديوانية ومسكني الاخير بغداد … لا احد يزايد على كرمكم ايضا اهل اليمن …. انتم ايضا اهل فضل و كرم … جيراني في بغداد كانوا من قبيلة العبيدي و هذا ( الشيف ) اليمني عبيدي ايضا… فنحن اهلّ اصلا ، وجذورنا واحدة"
هكذا اصبحت كلمات الشكر و الامتنان تزدحم في حنجرتي بطيشٍ من شدة الحفاوة التي تطل من عيونهم كشعلة العابٍ نارية.
استحلفني الشيف صاحب المطعم ان اقبل استرداد ما دفعت فرفضت بود و توجهت الى الحمام.
استلمت الطلب بعد حديث مفعم بالحب مع الجميع وانصرفت الى الشاحنة لاجد ان الشيف ابى الا ان يُكرمني بطبق سلطة بهي شهي لم اطلبه.
فتحت جهازي النقال لاطلع على اخر مستجدات خليجي البصرة (عن بُعد) مستمتعاً بوجبة الشاورمة النادرة في طريق الجوع ذاك.
القطري (خالد جاسم) مقدم برنامج المجلس يمجد بشعب العراق و اليمن ويلوم من طرف خفي انظمة العمق العربي.
العراق كنز مهدور … واليمن دُرة مدفونة.
طوفان بشري طيب وارض خصبة للمنافع التجارية والمادة الاعلامية والجمهور الرياضي.
العراقي (نور صبري) و اليماني (بشير سنان) يبكيان بحسرة سجين سجنه قومه عقوداً من الزمن ظُلماً … بقية الكباتن مُتأثرين ، ودموع جامحة تُغرق جفنَي عنوة… ودفء عناق اليمنيين لازال يغمرني.
السجين يغفر ويصفح لكن لا ينسى.
العراقي ليس ساذجاً مشوهاً ليبالغ في عطائه وانما في الصدر لوعة (٤٥ سنة من السجون و الحروب والتآمر) و(٥٠٠ عام من الافقار و التجهيل) وعلى عاتقه ثقل من الانتماء التاريخي المشرف قد يخونه التعبير عنه بالكلمات والافعال احياناً، فتصدر منه هفوة مأخوذا بزخم اللحظة او شطحة تبدو كأنها تَزَلُف.
يريد ان يصرخ بكل عفوية ( اني مازلت مُبهرا ولا استحق ان اتذيل قائمة القيمة الانسانية).
بعض الحمقى كان قد شكك ملمحاً لازدواجية كرم العراقيين… كان يظن بل ويتذمر من كرم شيعة العراق في زيارة الاربعين انه موجه فقط لشيعة ايران و لبنان وغيرهم.
ياتي خليجي البصرة فيلجم الافواه اذ تجلت اسمى معاني كرم شيعة الجنوب مع اهلهم من سنة الخليج و اليمن.
يجب ان يتعلم السطحيون الدرس جيدا .. ان كرم اخلاق العراقيين بسنتهم وشيعتهم و كردهم و تركمانهم واديانهم عابر للمصلحة المذهبية و العرقية.
يناديني الشاب السعودي الذي تردد على منزلي لعامين هنا في اميركا، يناديني بكلمة ( يُبة ) يعني ابي رغم ان اباه مازال حياً يرزق و انا اناديه ( ابني ) ولم افتح معه موضوعا خلافياً على مدار العامين، ياكل ويصلي معنا و ينام مع ابنائي ويرافقنا للاصطياف حتى اكمل دراسته.
بيتي البصري هنا في امريكا كان ولازال بيتاً للشاب المغربي واليمني والمصري والفارسي والخليجي والامريكي، السني و الشيعي والمسيحي، كلهم ابنائي بلا تمييز.
تربطني بهم علاقة الانسان بالانسان بعيدا عن حماقات الساسة.
لا اسمي ذلك كرما بل مسؤولية … نعم … مسؤولية وثقل سبعة آلاف سنة من العطاء الانساني يطوق الاعناق قلادة حِرص ، ويخلع على العراقي لقب (ابو الاُمم).
ذات المسؤولية التي دفعت الام البصرية المريضة لفتح شباك بيتها المتهالك لتمد كف الوصل بشابٍ اماراتي كما مدتها من قبل لزائر ايراني.
ذات الارث الحضاري الذي جاء بابن الموصل والرمادي والسليمانية لمؤازرة البصري الكريم في مهمته.
نفس الواجب الوطني الذي ملأ الملاعب البصرية بالعراقيين في مبارياتٍ لم يكن العراق طرفا فيها.
ذلك الشعب الذي ابهر العالم بمواقفه لابد ان يُكافأ بحياة كريمة ونظام تعليمي متطور ينهض باجياله الصاعدة.
لابد ان تُستغل طاقاته لنهضة البلد كي تُطوى صفحات (التجهيل المتعمد) (والفساد المنظم) (والتواكل الهدام).
لابد لخليجي ٢٥ ان تُرغِم المسؤولين على احترام الفرد العراقي والنهوض بواقعه الخدمي والتعليمي.
١٤/١/٢٠٢٣