الحرير/
بقلم/زهراء كاظم
في عزلة مفزعة عاشها الفنان نوري الراوي بعيدا عن رفقة الفن والمسؤولين عن الحركة التشكيلية في العراق الجديد وهو يدون محاولاته المغايرة ؟!.أقصد محاولات " العراق " ؟ وهي عبرة لكل مبدع !!
كان الفنان نوري الراوي يرتقي في طفولته التلال قرب مدينته راوه، ليطل منها على نهر الفرات، والبساتين،
والنخيل، وبيوت المدينة وقبابها. فشكّل هذا المزيجُ الجميل فردوسَه المتخيَل، الذي واصل رسمه منذ ثمانية عقود وحتى الآن، لتتجدد فيه الموسيقى والشعر والألوان والصوفية.
في حواراته دائما يستعيد الفنان نوري الراوي طفولته والاكتشافات الأولى، والدروس وزملاء الفن والحياة، والوالد الذي كان شغوفاً ببناء الدور بقبابها، وتزويق نوافذها من الجص الأبيض الرائق والحجر.
ويكشف الراوي، المولود في راوه عام 1925، أنه اهتم بالكتابة عن الفن مبكرا، فنشر اولى محاولاته في مجلات عراقية عام 1937، عندما كان في الصف الأول المتوسط، ثم اتسعت الرقعة لتصل كتاباته الى مجلات، وصحف لبنانية وعربية.
وكثيرا ما يتحدث نوري الراوي عن تجربته في الكتابة عن السينما، وخلال الخمسينات كان ضيفا مرحبا به في أربع دور سينما في بغداد، تفرد له موقعا مميزا ليكتب في الظلمة ملاحظاته، والحوار الذي كان يبث على شاشة خاصة على الجدار الجانبي للسينما، ليعد مقالته عن الفيلم التي تجد طريقها الى النشر لاحقا.
وبالرغم أن أغلب لوحات نوري الراوي، تتشكل من وحدات القباب، والنواعير، والبيوت الغارقة في السحر، وجمال الوانه الغامض، إلاّ أنه يعترف بعدم رغبته في رسم المناظر الطبيعية ، مكتشفاً ان القباب البيضاء، التي صنعها البناؤون الشعبيون، تنطوي على روحانية وجمال أخاذ، لازم روحه على مدى عقود.
وقد اكتشفَ لاحقا أن المتصوف محي الدين بن عربي اختصر دلالتها الفلسفية عندما قال فيها: "ما القُبة إلاّ وصفُ اللامتناهي" .
التحق نوري الراوي بمعهد الفنون الجميلة ببغداد في العام الدراسي 1940-1941، وفي استعادة لبعض المواقف الطريفة والدالة من حياة المعهد، يتذكر كيف تصرف الطالب كاظم حيدر(الفنان المعروف لاحقاً) عندما تقدم متأخرا للقبول في المعهد، لكن الفنان الأستاذ عطا صبري اعتذر لانتهاء فترة القبول للطلبة، واكتمال الصف، ولعدم توفر حامل للوحات (ستاند) لأي طالب جديد، فما كان من حيدر إلاّ ان جلب ستانده الخاص من البيت، وعلبة صفيح (تنكة) مصرّاً بقوله: هذا مقعدي وهذا ستاندي، وليس لديكم الان سبب لرفض قبولي.
جواد سليم مؤسسٌ وموحٍ للفن العراقي الحديث
يحتفظ نوري الراوي لأستاذه وزميله الفنان جواد سليم بمنزلة خاصة، اذ يعتبره عالماً قائماً بذاته.
ويقول عنه: انه ليس مؤسسا للفن العراقي الحديث فحسب، بل وايضا موحٍ لاستلهام الحضارة بشكل حيوي ضمن مدركات الفن الحديث.
ويرى الراوي ان شخصية جواد البسيطة، وقدرته على طرح أفكاره بسلاسة ووضوح، ساهمت في تعلق طلابه وزملائه بدروسه، وبافكاره التي غالبا ما يشرك الاخرين في مناقشتها.
وتتنوع مساحة الابداع والعطاء للفنان نوري الراوي ، بين الرسم، والكتابة الأدبية، والنقد الفني للتشكيل والسينما.
وقد ساهم في تأسيس جمعية الفنانين التشكيليين عام 1956، والمتحف الوطني للفن الحديث، فكان مديره الأول منذ عام 1962، فضلا عن اعداده وتقديمه لبرامج الفنون التشكيلية في تلفزيون العراق خلال السنوات 1957 ـ1987، واقامته ومشاركته في العشرات من المعارض الفنية التشكيلية، داخل العراق وخارجه، ومازال برغم سنينه التسعين، منكباً على رسم لوحته التي لن تكون الأخيرة.
ليرحل وهو يعاني أقسى غربة ووحدة وعزلة .